
شهد المجتمع العراقي في الآونة الأخيرة جدلاً واسعاً عقب وفاة طبيبة نفسية شابة، حيث انقسمت الآراء والتفسيرات وتباينت الروايات حول طبيعة الحدث، هل هو انتحار أم جريمة قتل.
إن التركيز على تفاصيل الواقعة نفسها يبعدنا عن جوهر القضية، وهو الكيفية التي يتعامل بها المجتمع مع الأزمات الصادمة، وما تتركه من انعكاسات على الصحة النفسية والتماسك الاجتماعي. ومن هنا تبرز أهمية استخلاص الدروس والعبر لتحصين المجتمع من آثار الفوضى المعلوماتية.
أولاً: هل يمكن للطبيب النفسي أن ينتحر؟
يعتقد أغلب الناس أن انتحار الطبيب النفسـي أمر غير منطقي، غير أن الدراسات العلمية تؤكد أن معدلات الانتحار بين الأطباء تفوق مثيلاتها في المهن الأخرى، وهو ما يعكس طبيعة الضغوط المهنية والنفسية التي يواجهها العاملون في القطاع الطبي، خصوصاً الأطباء النفسيون. فكما أن طبيب القلب قد يصاب بانسداد الشـرايين أو نوبة قلبية، وطبيب الكسور قد يتعرض لكسـر في عظامه، والجراح قد يخضع لعمليات جراحية، والطبيب النفسي قد يصاب بمرض عقلي أو نفسي أيضاً.
إن امتلاك الطبيب النفسـي للمعرفة المهنية لا يمنحه حصانة مطلقة، فهو في النهاية إنسان قد يتأثر بالعزلة، أو الإنهاك، أو الأزمات الشخصية. وتوجد عشـرات الحالات المسجلة لانتحار أطباء نفسيين مشهورين حول العالم، ومنهم فرويد، أحد الشخصيات المهمة في علم النفس.
ثانياً: هل يمكن للمنتحر أن يؤذي نفسه بشدة؟
نعم فالمنتحر يقوم بفعل غير معقول، وهو إقدامه على قتل نفسه، ولا يوجد شيء أبشع من هذا الفعل، وقد يستخدم وسائل مختلفة بعضها قد يكون بشعاً جداً، مثل احراق نفسه أو رميها من شاهق أو تمزيق شرايينه واوردته، مما لا يطلع عليه عامة الناس عادة، لكن أطباء الطب العدلي يشاهدون وحشية بعضها بشكل متكرر.
ثالثاً: الشائعات والفوضى الإعلامية وأثرها في النسيج الاجتماعي
رافقت الحادثة موجة واسعة من الشائعات والتكهنات التي انتشـرت عبر منصات التواصل الاجتماعي، وهو كاشف عن هشاشة المجتمع في تعامله مع الأخبار الصادمة. إذ تحوّلت المنصات الرقمية إلى ساحة لتوزيع الاتهامات والتفسيرات غير المستندة إلى أدلة، بل واستغلال الحادث لتصفية الحسابات بين الخصوم السياسيين والاجندات الخارجية، الأمر الذي فاقم الألم بدل أن يخفّفه، وزاد من ارتباك المجتمع، وأضعف ثقة الأفراد فيما بينهم وتسبب في بث الخوف وعدم الثقة في المجتمع.
إن خطورة هذا النمط من التناول الإعلامي لا تكمن في تشويه سمعة الأشخاص المعنيين فحسب، بل تتعداها إلى تكريس الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالصحة النفسية، وزعزعة التماسك المجتمعي. وهنا تبرز الحاجة الملحّة إلى نشـر ثقافة التحقق من المصادر، والتأكيد على أن الكلمة غير المسؤولة قد تخلّف آثاراً نفسية واجتماعية بعيدة المدى.
رابعاً: الدروس المستخلصة
إن مواجهة الأحداث المأساوية تتطلّب قدراً كبيراً من الوعي والمسؤولية. فبدلاً من الانجرار وراء روايات غير موثقة أو الانشغال بالجدل العقيم، ينبغي أن يكون التركيز على التحلّي بالصبر والمسؤولية الإعلامية، والالتزام بالتحقق قبل النشر، والابتعاد عن الإثارة على حساب الحقيقة، واعتماد آراء المختصين بدلاً من المؤثرين.
لا يمكن للمجتمع أن يمنع وقوع الأزمات أو المآسي، لكن بإمكانه أن يختار كيفية التعامل معها بشكل يحفظ حقوق الأفراد، ويحمي النسيج الاجتماعي من التمزق تحت وطأة الشائعات.
المقال الافتتاحي للعدد (25) من مجلة سلامتك التي تصدرها الجمعية العراقية للبحوث والدراسات الطبية